الأحد، 11 مارس 2012

الدليل العلمي على عدم وجود إله خالق - الجزء الثاني

 البداية والسبب
الحقيقة التجريبية المتمثلة بالانفجار العظيم دفعت بعض المتدينين للاحتجاج بها لاثبات وجود خالق. في عام 1951، البابا بيوس الثاني عشر خطب قائلا:" الخلق حدث عند زمن معين، لذلك هناك خالق". العالم القس جورج لومتر،الذي كان أول من اقترح نموذج الانفجار العظيم، نصح البابا ألا يجعل عبارته السابقة معصومة من الخطأ. المدافع عن المسيحية وليام لين كريغ وضع بعض الحجج المعقدة يدعي فيها أن الكون لا بد أن يكون  له بداية وأن هذه البداية تدل على خالق شخصي. واحدة من حججه مبنية على النسبية العامة، التي تمثل النظرية الحديثة للجاذبية والتي تشرها اينشتاين عام 1916، ومنذ ذلك الوقت نجحت في اجتياز اختبارات تجريبية صارمة.
عام 1970، العالم الكوني ستفين هوكينج والعالم الرياضياتي روجر بنروز، وباستخدام نظرية اشتقت قبل ذلك بواسطة بنروز، اقترحا  أن تفرد singularity  حدث في بداية الانفجار العظيم. وبحساب النسبية العامة رجوعا للخلف حتى الزمن صفر، يصبح الكون أصغر وأصغر بينما تزيد الكثافة ويزيد مجال الجاذبية. وعلى الأقل باستخدام رياضيات النسبية العامة تصبح الجاذبية لانهائية. عند هذه النقطة يزعم كريغ أن الوقت يجب أن يتوقف وبالتالي لا يمكن وجود وقت قبل ذلك.
لكن، هوكنج  تخلى عن اثباته الأول. في كتابه "تاريخ موجز للزمن" يقول جازما: في الحقيقية لم يكن هناك أي تفرد عند بداية الكون. هذا الاستنتاج المعدل، والذي وافقه فيه أيضا بنروز، ينتج من ميكانيكا الكم، التي تم التحقق منها اليوم إلى دقة متناهية. ميكانيكا الكم تخبرنا أن النسبية العامة كما هي مصوغة اليوم تنهار عندما يصل الوقت لأقل من وقت بلانك ، Planck time، 6.4 x 10-44 ثانية، وتنهار كذالك عند وصول الطول لأقل من طول بلانك المذكور سابقا. مما سبق نستنتج أن النسبية العامة لا يمكن استعمالها للاستدلال على حدوث تفرد قبل وقت بلانك وتصبح حجة كريغ باستخدام نظرية التفرد لاثبات بداية الزمن باطلة.
كريغ ومتدينون آخرون أيضا طرحوا حجة أخرى هي أن الكون لا بد ان يكون له بداية لأنه لو كان قديم بلا نهاية، فسوف يستغرق ذلك وقت لا نهائي للوصول إلى الحاضر. لكن الفيلسوف كيث بارسونز رد على ذلك بقوله : " القول أن الكون قديم بلانهاية يعني أنه لا يوجد له بداية، وليس أن هذه البداية كانت قبل زمن لا متناهي".
اللانهاية هي مفهوم رياضياتي تجريدي تم صياغته من قبل العالم الرياضياتي جورج كانتور في نهاية القرن التاسع عشر. لكن الرمز ‘∞’ يستخدم في الفيزياء للتعبير عن عدد ذا قيمة كبيرة جدا. الفيزياء تهتم بعدّ الأشياء. الزمن في الفيزياء ببساطة هو عدد دقات الساعة. يمكن العدّ للخلف  كما يمكن العد للأمام. بالعد للأمام يمكن أن تحصل على عدد كبير جدا لكن لكن لن تصل أبدا لعدد لانهائي موجب لذلك الزمن لا يمكن أن ينتهي لأننا لا يمكن أن نصل إلى إلى إلى . بالعد للخلف يمكن الحصول على عدد سالب كبير لكن لن تصل أبدا لعدد لانهائي سالب وبالتالي فالوقت ليس له بداية لأننا لا يمكن أن نصل إلى -. حتى لو لم يكن الكون له عدد لا نهائي من الأحداث في المستقبل، فإنه لا يزال لا يحتاج إلى بداية. وبالمثل حتى لو لم يحوي الكون عدد لا نهائي من الأحداث في الماضي فإنه لا يزال بغير حاجة إلى بداية. يمكن دائما وجود حدث يتلو آخر، ويمكن دائما وجود حدث يسبق الآخر.
يزعم كريغ أنه إذا استطاع اثبات أن للكون بداية، فهذا كاف للدلالة على وجود إله شخصي. يتم صياغة هذه الحجة فيما يسمى الحجة الكونية الكلامية المستمدة من اللاهوت الاسلامي. الحجة يمكن تلخيصها كالتالي:
  1. أي شيء بدأ في الوجود له سبب
  2. الكون له بداية
  3.  لهذا الكون له سبب
هذه الحجة تم نقضها من الكثير من الفلاسفة على أسس منطقية. ولا حاجة لإعادة ردود الفلاسفة هنا لأننا نريد التركيز على العلم. في كتاباته، كريغ يعتبر النقطة الأولى في الحجة كأمر بديهي لا يحتاج لتبرير أكثر من الخبرة اليومية للانسان. لكن نفس هذا النوع من الاخبرة البشرية يخبرنا أيضا أن الأرض مسطحة.
في الحقيقة، الأحداث الفيزيائية على المستوى الذري والمستوى دون الذري لوحظ أنها تجري بدون سبب. على سبيل المثال، عندما تنتقل ذرة في حالة مرتفعة من الطاقة إلى حالة أقل من الطاقة فإنها تطلق تطلق فوتون، وهو جسيم الضوء، لا يوجد سبب لهذا الحدث. كذلك لا يوجد سبب مثبت للنشاط الاشعاعي للأنوية المشعة.
كريغ رد بأن الأحداث الكمية لا تزال مسببة، وأنها فقط مسببة بطريقة غير محددة يسميها "سببية احتمالية" probabilistic causality . في الواقع، فإن كريغ بزعمه هذا يعترف أن السبب يمكن أن يكون عشوائي، شيء عفوي أو شيء غير محدد سابقا. بالسماح للأسباب الاحتمالية، فإنه يدمر حجته نفسها للخلق غير العشوائي والمحدد سلفا.
نمتلك الآن نظرية ناجحة جدا للأسباب الاحتمالية أعني ميكانيكا الكم. إنها لا تتنبأ بمتى سيحدث حدث معين، وتفترض ان الأحداث المنفصلة ليس مسبقة التحديد. الاستثناء الوحيد هو فقط في حالة تفسير ديفيد بوم لميكانيكا الكم. لكن حتى هذا التفسير فإنه يفترض وجود قوة تحت كمية غير محددة. وإن كان هذا التفسير له بعض المؤيدين، لكن بشكل عام فإنه غير مقبول لأنه يتطلب علاقات مفرطة اللمعية، أي أسرع من الضوء، وهذا يخرق قواعد النسبية العامة. كما أنه لم يتم العثور على أي دليل على وجود قوى تحت كمية.
بدلا من التنبؤ بالأحداث المنفصلة، فإن ميكانيكا الكم تستخدم للتنبؤ بالتوزيع الاحتمالي لناتج مجموع الأحداث المتشابهة. إنها تستطيع ذلك بدقة عالية. على سبيل المثال، الحسابات الكمية ستخبرك كم عدد النوى في عينة كبيرة سوف تتحلل بعد وقت معين. أو يمكنك التنبؤ  بشدة الضوء الصادر من مجموعة من الذرات المتهيجة، والذي يمثل العدد الكلي للفوتونات المنبعثة. لكن لا ميكانيكا الكم ولا أي نظرية أخرى بما فيها نظرية بوم، تستطيع قول أي شيء عن تصرف نواة بعينها أو ذرة لوحدها. الفوتونات المنبعثة من الانتقال الذري تأتي للوجود عفويا، كما هو حال الجسيمات المنبعثة في الاشعاع الذري. بهذ الظهور العشوائي غير المحدد سلفا فإنها تناقض النقطة الأولى في دليل كريغ.
في حالة النشاط الاشعاعي، يلاحظ أن التحلل يتبع قانون أسي. لكن هذا القانون الاحصائي هو المتوقع في حالة أن احتمال التحلل في مدة زمنية قصيرة معينة هو نفسه لجميع الفترات بنفس المدة الزمنية. بمعنى أن منحنى التحلل نفسه هو دليل أن الأحداث المنفصلة تقع بشكل عشوائي غير محدد سلفا.
ميكانيكا الكم والميكانيكا التقليدية (النيوتنية) ليستا منفصلتان عن بعضهما البعض كما هو الاعتقاد الشائع. في الحقيقة، ميكانيكا الكم تتغير بنعومة إلى الميكانيكا الكلاسيكية عندما تكبر متغيرات النظام مثل الكتلة والمسافة والسرعة وتصل إلى القيم التقليدية. عندما يحدث هذا تنهار الاحتمالات الكمية إلى صفر أو 100%، مما يعطينا تأكيدا على هذا المستوى. لكن، هناك العديد من الأمثلة حيث تكون هذه الاحتمالات ليست صفر أو 100%. حسابات الاحتمالات الكمية تنطبق مع الملاحظات التي تتم على أنظمة لأحداث متشابهة.
لاحظ أنه حتى لو صحت الحجة الكلامية الكونية وأن الكون يحتاج لسبب، لماذا لا يمكن أن يكون هذا السبب طبيعي؟ كما هو واضح فالحجة الكونية تفشل على المستويين التجريبي أو النظري حتى بدون أن نصل للنقطة الثانية من الحجة.
على أي حال، مسمار آخر في نعش الحجة الكلامية الكونية ينتج من فشل النقطة الثانية في الحجة أيضا. كما رأينا سابقا، فإن دعوى أن الكون كان له بداية لحظة الانفجار العظيم ليس لها مكان في المعرفة الفيزيائية والكونية الحالية. مشاهدتنا للانفجار العظيم لا يلغي احتمال أن يكون هناك كون سابق. نماذج نظرية تم وضعها تقترح أن الكون الحالي جاء من كون سابق. على سبيل المثال بعملية تسمى النفق الكمي quantum tunneling أو التموج الكمي quantum fluctuations. المعادلات التي تصف  الحالة الاولية للكون تنطبق كذلك على الطرف الآخر من محور الزمن. لهذا فلا يوجد سبب يجعلنا نفترض أن الكون بدأ  مع الانفجار العظيم.
كما رأينا فإنه لا يوجد أي دليل على أي معجزة حدثت لحظة الانفجار العظيم. هذا يدل أن الانفجار العظيم يمكن أن يكون حدث طبيعي. في الحقيقة، هذا هو الاستنتاج الأكثر منطقية بناء على  غياب أي دليل على حدوث أي خرق للقوانين الفيزيائية المعروفة. علماء فيزياء وكونيات بارزين قاموا بنشر- وفي المجلات العلمية المشهورة - عدد من الاقتراحات حول كيف يمكن أن يكون الكون نشأ من العدم طبيعيا. على الرغم من أن هذه الاقتراحات لا زالت مجرد تكهنات لكنها مبنية على أسس علمية ثابتة. وكلها لا تخرق أي قانون فيزيائي معروف. هؤلاء  الكتاب لم يدعوا أنهم أثبتوا أن اقتراحاتهم هي ما حدث بالفعل. عبء الاثبات يقع على الذين يريدون اثبات أن هذه السيناريوهات مستحيلة.
باختصار، المعطيات التجريبية والنظريات التي تصف بنجاح هذه المعطيات تشير إلى ان الكون لم يأت من خلق هادف. بناء على أفضل معرفتنا الكونية اليوم، نستنتج دون أدنى شك أن الإله الخالق غير موجود.

المراجع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق